كانت الفرصة مواتية لزيادة الضغوط والإلحاح على والدينا -و نحن صغار- للموافقة على طلبنا بأن نقتني قطة في بيتنا بعد أن فعلت هذا خالتي التي تكبرني وأختي بعام واحد، وكانت الإستجابة سريعة كما في كل مرة نحسن فيها إستثارة مشاعر الشفقة لديهما.
وصلت القطة أخيرا وكانت رائعة الجمال، ذات شعر طويل كث، وألوان بارعة، وكانت تمتلك وجها أنيقا رقيقا، وعينان زرقاوان، وتبدو عليها علامات النجابة والذكاء، في الحقيقة لقد نالت إعجابنا جميعا.
قررت يومها أن أسميها مديحة فقد كانت عينا السيدة مديحة التي أعرفها بلون عيني قطتنا، وهذا ما دفعني لإعطائها هذا الاسم، وكنت أقول لأختي:
يجب أن يكون لقطتنا اسما لائقا بها فسوف تصبح جدة بسرعة فائقة كما قرأت في مجلة عن القطط، ومن المضحك أن يعرف أحفادها أن لها اسما سخيفا- مثل لولو وتوتو وميمو- كما يسمي بقية أقربائنا قططهم.
وقد إقتنعت أختي ووافقت دون إعتراض يذكر.
لم نكن نتوقع من والدنا أن يقوم بتدليل القطة أو أن يحملها ويمسح شعرها مطلقا، فقد كان والدي رجلا مشغولا بالكثير من الأمور الهامة، ولم يكن يخطر لنا أن تكون قطة صغيرة -بحجم مديحة- في يوما ما شيئا مهما بالنسبة إليه.
لقد كان وجود مديحة في بيتنا أمرا رائعا وقد تعلمت بسرعة كيف تقضي حاجتها في الحمام، وحرصنا جميعا وكنت أولهم على التأكد من بقاء باب الحمام مفتوحا طوال النهار لأن تنظيف ما قد تفعله في المنزل سيكون من نصيبي وحدي، فقد كنت أنا القائد في هذه القصة، وكانت مديحة تخصني أكثر من البقية.
إستطاعت قطتنا بعد مدة أن تبني جسورا من الود بينها وبين والدتي، فقد كانت والدتي رحيمة، وكانت مديحة تحسن التودد إليها عندما تقوم بالتمسح بقدميها صباحا كلما فتحت لها الباب، فتضع لها صحنا من الحليب الدافئ، وطالما إعتقدت أن والدتي تحبها رغم عدم تصريحها بهذا فقد كانت تفضل العصافير وتقتنيها.
في بيتنا عاشت ثلاثة من الطيور على فترات متتالية، فقد كان طير الحب هو الأول ثم تلاه ببغاء أخضر وبعدها ببغاء أصفر اللون، ورغم محبتي للطيور إلا أن أيا منها لم يكن يعني لي شيئا مما تعنيه -مديحة- فقد كانت تلاعبني وكنت أتسلى بهذا كثيرا، وكانت تفرحني إستجابتها وتوددها الدائم لي وجلوسها بسكينة قربي، ومتابعتها معي لأفلام الرسوم المتحركة بكل إهتمام.
و في ذلك اليوم بدت متوعكة، وبقيت مستلقية طوال الوقت، وعافت الطعام والشراب، وكنت قد جلست بجانبها أذرف دمعا غزيرا من شدة الخوف عليها وتألما لآلامها، وكان والدي هناك أيضا وقد أشار علينا بحملها إلى خالي والذي يعمل طبيبا بيطريا، وبالفعل تم لنا هذا وكنت أرى والدي يستمع بإهتمام لملاحظات خالي، ومن ثم يسأل عنها وعن علاجها حتى شفيت تماما.
في الحقيقة لقد كان إهتمام والدي -بمديحة- موجودا، ولكنه كان مغلفا بتلك الهيبة التي يلف بها وجهه ويحرص عليها، فكل وجبات الحليب التي تتناولها كان هو من يحضرها لها بإنتظام، وراح يقطع لها قطعا صغيرة من اللحم عندما كبرت قليلا وقرر أنها يجب أن تبدأ بتناول اللحم، ثم تعلمت ذلك بنفسي وحملت عنه هذه المهمة.
وكنا نبتسم خفية ونراقبه وهو يسقط لها لقيمات من الطعام ونحن نجلس إلى مائدة الطعام، وقد باتت تعرف أنه من يفعل هذا معها فتجلس قريبة من مكانه.
وهو من يحضر وجبات الحبوب والبذور التي تحبها عصافيرنا، وكان هذا هو تعبيره عن تلك الرحمة الساكنة في قلبه إذ لم يكن يطلق لكلماته العنان أبدا.
لقد كان وجه والدي الصامت يخفي خلفه الكثير من الحنان والحب والعطف وكثيرا من الرحمة والشفقة للجميع من حوله.
أحبك يا والدي.
الكاتب: عبير النحاس.
المصدر: موقع رسالة المرأة.